المضيفة ورحلة الرياض دبي..


أنهينا اليوم الأخير من مؤتمر الحكومة الإلكترونية أنا وصديقي خالد، تنفسنا الصعداء أحببنا أن يكون آخر لحظات نقضيها في دبي تكون في (الستي سنتر)، كانت رحلة جميلة بكل ما تحويه الكلمة من معنى، أول مره أسافر فيها مع خالد، ولن تكون الأخيرة، فلم أتوقع نهائياً أن يكون السفر معه ممتع بهذه الطريقة، صحيح أن خالد مطوع، ولكن هذا الأمر لا يعيبه إطلاقاً..

أحب السفر مع المطاوعة حتى وإن اختلفت معهم في التوجه، الإختلاف الوحيد بيني وبين خالد أنه لا يجمع الصلوات، فقد كان يعتقد أنه بمجرد الإقامة في البلد لأيام قليلة فالقصر للصلاة في وقتها ولا يجمعها مع صلاة أخرى، بينما أنا أجمع وأقصر (ديني واسع)، كنت أقول له دائما “لا تحنبلها حنا مسافرين”، كانت الرحلة بعد وفاة ابني بأسبوع ولكم أن تتخيلوا السفر في مثل هذه الظروف، إلا أن رفقة خالد تجلي كل هموم الصدر..

خالد أيضاً يتحفظ باستمرار على طقوسي الصباحية قبل الخروج للعمل، فقد كان دائماً يردد “الله يعين زوجتك عليك”، وفعلاً “أم ليان” ستكون من الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب بإذن الله لصبرها..

ليس أجمل من أن تختم رحلة دبي بوجبة غداء فاخرة في مطعم إيراني سواءً كان “صدف” أو “حاتم”، ومجرد التفكير بالذهاب لمطعم “صدف” يعني أن الرحلة ستفوت، فكان المصير الأكيد في مطعم “حاتم” في “السيتي سنتر”، والسفرة الإيرانية الفاخرة وأرز الزعفران المزين بالزركش، وبعدها تحلية رائعة بالفالودة، ثم لبن إيراني بالنعناع، يعقبها شاي إيراني فاخر، لدرجة ترى دموعك بعدها تترقرق من شدة الشبع..

انطلقنا إلى مطار دبي متثاقلين الخطى فأي تأخير بعد ذلك يعني قضاء يوم إضافي في دبي، وهذا ما لا يريده خالد، وعندما صعدنا للطائرة كان مقعدنا في أول صف من السياحي، لم يحبذ خالد المكان وأحببنا تغييره، إلا أننا لم نرتح في المكان الجديد وعدنا إلى مكاننا السابق..

جلس خالد بجانب الشباك، وجلست بجانبه في المقعد الثاني إلا أن تكور الكرش بعد الوجبة الإيرانية الجميلة، ولوجود حاجز بسيط أمامي، أجبرت على أن أجلس في المقعد الثالث فهو يطل مباشرة على حجرة تجهيز الطعام في الطائرة، ويا لله ما ألذ الطعام، حتى وأنت تشعر بالتخمة تريد المزيد..

بدأت أتصفح الجريدة وخالد كذلك، وتحركت الطائرة، وما إن دق جرس التنبيه الأول الذي يسمح بتحرك المضيفين في الطائرة، حتى ابتسمت “سلوى” وهي تسحب الستار الذي يفصل السياحي عن الأولى ويمنع رؤية طاقم الطائرة وهم يجهزون الأطعمة، عدت لتصفح الجريدة مره أخرى وأنا أسمع جرس التنبيه الثاني الذي يسمح بفك أحزمة الأمان للركاب..

وأنا مستمتع بتصفح الجريدة، إذ بصوت عنيف قادم من مقصورة الدرجة الأولى، توقفت.. فكرت.. تساءلت هل أسامة هنا؟..

قوة الصوت تزيد.. ونبضات قلبي لا استطيع مجاراتها.. صور طائرات 11 سبتمبر أمام عيني.. شعرت أنها النهاية..

التفت لخالد نفس شعور الوجل على وجهه.. انكمشت.. ماذا يحدث؟.. نظري مشدود للستارة.. شيء يهوي.. توقعت أنه مؤخرة أنثى.. لا إنه أكبر..

يا رب لطفك.. لا أريد أن أموت.. لا أريد أن يشهر بي بعد وفاتي..
أريد أن أحيا سعيداً بعيد عن المشاكل.. لا أريد سجن قوانتينامو ولا أبو غريب..
أريد أن أعود لبيتي.. أريد أن أعيش سعيداً..
وهوى على قدماي..

ربي رحماك.. عربة الطعام تتكسر في أحضاني، الحمد لله أنها عربة المشروبات الباردة والثلج وليست عربة الطعام الحار.. لم أعد اشعر بقدماي تورمت..

“سلوى” تضع يديها على وجهها.. ورئيسة المضيفات تصرخ “أبعدوا العربة عنه”.. حملتها “سلوى” و “ناهد”، وبدأت “سلوى” بمسح بنطالي وهي تعتذر، وأنا في غاية الألم..
مراقب الطائرة أتى ليعرف ماذا حدث وجلس بجانبي وصرف المضيفات، وحاول أن يهدأ الروع.. وأنا في أعلى درجات الألم..

خالد بدأ بالاستغفار أخرج المصحف من جيبه.. وبدأ يقرأ.. ثم رمقني بنظرة.. وقال “ماذا فعلنا في دبي حتى يعاقبنا الله؟.. سأستغفر ربي لي ولك فلا أريد أن تسقط الطائرة؟”..

أحضرت “سلوى” كيس ثلج وها هي تضمد جراحي.. صرفتها بعيداً.. “مراقب الرحلة” يعرض علي مقعد في الدرجة الأولى.. رفضت وبشده فكيف أترك خالد؟.. تحدث معنا قليلاً وهم بالانصراف.. أوقفته وطلبت منه إعداد تقرير بالحادثة لأني سأطلب تعويض عن ما حدث لي؟.. فأنا أعرف أنه بمجرد الهبوط لن استطيع طلب التعويض.. ويجب أن تتم الإجراءات ونحن في السماء..

تنهد وقال “لك الحق في ذلك، ولكن المضيفة المتسببة في الحادثة مصرية، وشركة الطيران ستنهي عقودهم بنهاية العام، وعندها ستصرف لهم مكافأة نهاية خدمة، وتقرير مثل هذا سيحملها المسئولية، وسينهى عقدها فوراً وتحرم من مكافأة نهاية الخدمة”..

فكرت قليلاً وطلبت منه الانتظار إلى ما قبل الهبوط إذا رحلت آلامي فسننهي الموضوع، وإذا استمرت فلي الحق بالتعويض..
“لك ذلك..” كانت إجابة مراقب الرحلة..

وما هي إلا دقائق “سلوى” تتجه نحوي.. تلمع دمعة في عينيها.. سألت بانكسار عن الحال.. ولكني لم أحتمل هذا الانكسار.. قلت له بأن تنسى الموضوع تكمل عملها، همت بالرحيل.. طلبت منها أن تذكر الله..

دقائق أخرى “سلوى” و “ناهد” ومعهما جمع من المضيفات.. وأكياس من الوسائد.. وضعوها أمام المقعد.. رفعوا أقدامي عليها، وبدوا بتضميد الجراح.. خالد يدقق في المصحف بشدة.. ويستغفر ربه.. ويدعي علي بالويل والثبور.. ويقسم أيماناً مغلظة بأنه لن يسافر معي مرة أخرى..

ثلج.. تدليك.. كل من في الطائرة يتمنى لو كان مكاني.. لم أحتمل الأنظار المصوبة تجاهي.. صرفت المضيفات على مرارة.. وطلبت من “سلوى” أن تنادي “مراقب الرحلة”.. وعندما أتى قلت له لا أريد تعويضاً.. وأسقط حقي كاملاً..

هبطت الطائرة.. أتحرك بتثاقل.. والألم يسحقني.. عند باب الطائرة شكرتني “سلوى”..

3 قراء تعجبهم التدوينة.

Share

انضم إلى المحادثة

8 تعليقات

  1. أولاً، عظم الله أجرك في وفاة ابنك وأحسن عزائك ..

    لا أدري متى توفي، لإنني لو كنت أعلم لسارعت بالتعزية والواجب ..

    فاعذرني يا محمد ..

    الذي اكتشفته بعد انتهاء القصة أنك كاتب مبدع بكل ماتعنيه الكلمة، لم أستطع إغلاق الصفحة قبل إنهاء كامل القصة ..
    أتمنى أن نرى قصص أخرى، سواءاً واقعية أم من خيالك الرائع ..

    كل التحية ..

  2. أكيد بتتنازل عن حقك بعد الشئ اللي شفته … ماألومك

    ما ودك تروح دبي مرة ثانية ويتكرر معك نفس الموقف ؟؟؟

  3. ولكني لم أحتمل هذا الانكسار (قلبك طيب بقوة )

    وثلج وتدليك (لا حول ولاقوة الا بالله )

    هذا وولدك توه متوفي الله يعوضك

    انصحك بالتوبه والاعتذار لام ليان

  4. عظم الله اجرك بابنك وبالرحله .. وارجو ان تتحفنا بمزيد من القصص .. فاسلوبك رائع وجذاب . شكرا لك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.