صناعة التأثير


في أيام الدراسة الثانوية كنت مسؤولاً عن الإذاعة المدرسية، وكان هناك شاب في فصلي في قمة الهدوء، وفي ذات الوقت يتقد حماسة جداً، كان من أدمث طلاب الصف خلقاً، وأكثرهم تواضعاً، كان لا يدخل في جدليات مع أي طالب، ملتزم بدينه، لدرجة تشعر أنه من المدينة الفاضلة التي لا نراها إلا في الأحلام.

عندما تحدثني ابنتي ليان حول إذاعتهم المدرسية الصباحية، أجد سهولة كبيرة في الإعداد لها، فما عليها إلا أن تبحث في الإنترنت عن الموضوع التي تريد مدرستها، وتجمع من مواقع الإنترنت الكثير حوله، لكن في أيامنا كانت الإذاعة المدرسية هاجساً يومي، يشغل التفكير، فمصادر المعلومات محدودة، وأغلبها تكون المكتبة المدرسية، فهي الملاذ الأول للبحث عن مواضيع الإذاعة.

وأكثر شيء مزعج في الإذاعة عندما تبحث عن من يجهز لك مواضيعاً، ويلتزم بذلك، ومن ثم يقف أمام الطابور الصباحي ليلقي أمام الجميع الموضوع، فكانت الإذاعة ضرب من ضروب العمل الشاق، فكيف بأن تكون مسؤولاً عنها لجميع الفصول، حيث كان المدرسين وقتها يبحثون عن الطالب الملتزم الذي يحمل عنهم هذا العناء، وللأسف كنت أنا من يقع على كاهله هذا الموضوع دائماً، وفي حالة فشل فصل عن تقديم الإذاعة، كان لابد أن تكون هناك خطة بديلة دائماً.

صديقنا الشاب الهادي، أتى ذات مره، متخلي عن خجله، ومبدي ملاحظات على جدولة الإذاعة، وعدم تجديد بعض الفصول في المواضيع، ورتابة الطرح من بعض الفصول، كان موعد إذاعة فصلنا في جدولة الإذاعة قد أزف، ولدى هذا الشاب فكرة مختلفة، تخرج الإذاعة عن رتابتها، الفكرة كانت رائعة، وتنفيذها ليس سهلاً، وصديقنا طلب أن يتولى تنفيذها، ولكن تنفيذها سيجعل دوري هامشياً، وهذا فصلي من المفترض أن يكون دوري فيه أكبر كمسؤول عن الإذاعة.

بين الهامشية التي سيكون فيها دوري في إذاعة فصلي، وتقديم وجه جديد وفكر تجديدي للإذاعة الصباحية المدرسية كان الصراع يحتدم في داخلي، فكرت وفكرت، ولكن الوقت ليس في صالح الجميع، فهي أيام معدودات على إذاعة فصلي، بعدها كان القرار، وأعلنت أنني سأقدم هذا الوجه الجديد والفكر الجديد للجميع، فقد اكتشفت موهبة جديداً، ورضيت بهامشية الدور.

اكتشاف موهبة جديدة ليس بالأمر السهل، وتقديمها للجمهور فيه تحديات كثيرة، فإذا فشل التجديد، أنت من ستلام، وإذا نجح ستجد هناك من يقلل من هذا النجاح، ويحاول الانتقاص منه، ولكن التغيير دائماً ايجابي.

بدأ صديقي الشاب في التجهيز للإذاعة، وأختار المشاركين، وتقسمت الأدوار، ورضيت أنا بالدور الهامشي، وجاء اليوم الموعود، وكانت إذاعة فصلنا أجمل إذاعة على الإطلاق، حازت على رضا جميع الطلاب والهيئة التعليمية والإدارية، وبدأ أعداء النجاح بالتشكيك مجدداً، ولكن لم أبالي في ذلك، من نجح هو فصلنا بجهود الجميع، وفكر التجديد من صديقنا الشاب.

ومرت الايام والتقيت مجدداً بصديقنا الشاب في مرحلة دراسية أخرى، وبدأنا في التعاون الدراسي مجدداً، لا أذكر طبيعة التعاون الذي بيننا، ولكن أذكر أن هناك بصمة مختلفة تركتها في نفس هذا الشاب، ليخوض التحديات بشكل مختلف، بعيداً عن الخجل، متسلحاً بالقدرة على خوض كل جديد.

ومنذ أيام أعدت الالتقاء بالشاب من جديد، سألني في أمر وأجبته، هو يخوض تحدي جديد ويريد من يدعمه، قال لي أنت قدوة، ومنك نتعلم، أسعدتني هذه الكلمات كثيراً بالرغم من أنني لم أقدم له شيء، هو من فكر وخطط ووزع وصنع يوماً إذاعياً رائعاً، وأنا لم أفعل إلا التنحي جانباً ليؤدي هو الدور بكل حرية.

أسعدتني كلماته، وأسعدني أنه مستمر في طريق النجاح، وفرحت أنني ساهمت في اكتشاف موهبة، وساهمت في التغيير والتحفيز والتعليم، وصناعة النجاح.

همسة
كن مؤثراً وأترك انطباع حسناً فسيذكر الجميع بالخير

قارئ واحد معجب بالتدوينة.

Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.