“ولو كان بهم خصاصة”


في إحدى إشارات المرور في العاصمة الرياض، وفي أحد أرقى أحيائها، عامل النظافة يجمع مخلفات السيارات، وتلك السيارة الفارهة تتوقف لتلوح فتاة بيدها لعامل النظافة وتعطيه علبة حلويات فارهة يبدوا أنها تفوق حاجة الفتاة، يأخذها العامل ويقدم أرقى أنواع الشكر والامتنان أمام عدسة كاميرا هاتف الفتاة، وكأن الفتاة أخرجته من عباءة الفقر إلى جنة الغنى، يدف عربة التنظيف إلى الزاوية البعيدة، يفتح العلبة على عجل ومن ثم يعيد إغلاقها، ويضعها في مكان آمن في عربته، ويواصل عمله.

بعد أن بثت الفتاة حسنتها على مواقع التواصل الاجتماعي، معلنة عن طيبة قلبها ومدى رحمتها، متباهية بأنها تتصدق من أفخر وأطيب الأنواع، ارتسمت ابتسامتها الصفراء على شفتيها التي اثقلتها عمليات النفخ، وأبعدت خصلة شعرها المستعار التي انسدلت على جبينها وهي ترمق العامل يبتعد، ولم يبدأ في منحها لذة تصويره وهو يتناول محتويات صندوقها.

وفي الجانب الآخر فتاة صغيرة وأمها تتسولان ويرقبان العامل من بعيد، تحاولان أن يستجدين سائقي المركبات بحسنة بسيطة، وأنت لا تعلم صدق فقرهم، أو كذبه، وترقبان الموقف وتحرك الفتاة كم أمها وكأنها تندب الحظ العاثر الذي أوقعها في موقف التسول هذا، في بالها أحلام كثيرة، وطموح أكبر، ورغبة في أن تعيش في رغد كتلك الفتاة صاحبة السيارة الفارهة التي لا تبالي بما تصرف، ولا تحسب حساباً لريال واحد.

وخلف السيارة الفارهة سيارة رجل بسيط أرهقت السنين بدنه، حتى انعكس ارهاقها على وجهه، لتطبع بصمتها من تجاعيد تنبأ عن معاناة يومه في البحث عن قوت أطفاله، يتذكر وهو يتأمل الفتاة الصغيرة حياة أطفاله، فلا يريد أن تكون حياتهم بعده قاسية، يحاول أن لا تعبث بهم السنين كما عبثت به، وعينه الأخرى ترمق صاحبة السيارة الفارهة ويدعوا ربه أن يغني أبنائه كم أغناها.

تنتهي لحظة الوقوف، وتبدء الثواني الأخيرة لإشارة المرور في التحرك بسرعة، وكأنها تود أن تنهي الموقف بأقل خسائر الأنفس، تحاول أن تنهي تأملات الجميع، وأن تجبر ألم الفتاة، وكبرياء العامل، وطموح المسن، وغرور الفتاة، وفي المقابل تبدأ الفتاة الصغيرة وأمها في التنحي جانباً عن الطريق حتى لا تنتهي حياتهم تحت عجلات سيارة فارهة.

عامل النظافة يلمح الفتاة الصغيرة وهي تهرول إلى جانب الطريق، ويتذكر طفلته الصغيرة هناك في بلاده البعيدة، ويتوق للقياها، ولكنه يريد أن يهب لها حياة أفضل، يتمنى أنها بجانبه الآن حتى تتناول هذا النوع الفاخر من الحلويات التي لا تأتيه حتى في الحلم، يبتسم بكبرياء ويلوح بيده للفتاة الصغيرة، وبيده الأخرى يمد لها علبة الحلويات الفاخرة، والفتاة الصغيرة ترمق أمها بنظرة رجاء أن تدعها تذهب لتلمس تلك العلبة فقط، وتعرف معنى الحياة المخملية.

الثانية الأخيرة.. إشارة المرور تتحول للون الأخضر، والفتاة الصغيرة تمسك بيدها علبة الحلويات الفارهة، وعامل النظافة يترك العلبة من يده، والفتاة غير مصدقة أنه تركها له، ابتسامة كبرياء تعلو محيا العامل، وابتسامة سعادة تعلو ثغر الفتاة الصغيرة، وذهول على وجه صاحبة السيارة الفارهة.

ترك العامل للفتاة الصغيرة علبة حلويات فارهة ليدخل السرور لها، وأشاح بوجهه عنها ونظره للسماء وكأنه يناجي ربه ويسأله ليدخل السرور لقلب ابنته كما أدخل السرور لقلب هذه الفتاة، عاد إلى عمله وهو يشعر بلذة المنح، وحلاوة الصدقة، فلم يبالي بأنه فقد للتو حصل على هذه العلبة الفارهة، بل في لحظتها منحها لغيره.

لله در العامل كيف كان رسولاً للحياة، وكيف وهب السعادة لغيره، في حين أن صاحبة السيارة الفارهة حاولت التباهي وإرضاء غرورها على أن تمنح السعادة للآخر.

همسة
كن رسولاً للسعادة..

سجل أعجابك

Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.